الشاعر الفلسطيني ابن قرية سالم أحمد فوزي أبو بكر
و (حَجَر أحمد)
نَحتفلُ اليومَ بِشاعِرٍ عميقٍ في هذه الأرضِ المُبارَكةِ التي تُنبتُ يوماً بعد يومِ شعراءَ بقامة الزيتون واخضرارِه، ِهذا الشاعرُ ُ أحمدُ فوزي أبو بكرٍ المُنْطَلِقُ من قريةِ سالم الصغيرةِ إلى دنيا الشِّعْرِ الرَّحْبَةِ واثِقَ الخُطى مُمتَدَّ الإشْعاعِ متدَفّقاً كشَلّالٍ بإبداعٍ رصينٍ ولُغةٍ أنيقة ٍ وموسيقى عَروضيَّةٍ ورُوحيَّةٍ ومشارَكةٍ وِجْداِنيَّةٍ للوطنِ بِكلِّ هُمومِهِ وأوجاعِهِ، وها هو شاعرُنا المتعدِّدُ المواهِبِ الضارِبُ بسهم في عددٍ مِن فُنونِ الأدب والمعرفَةِ والثقافةِ، يُقدِّم لنا ديوانَ شِعْرٍ جديداً يَحْمِلُ خريطةَ روحِهِ ويُصوّرُ فضاءاتِهِ ويرسْمُ مشاعرَهُ بِريشةٍ خلّاقةٍ شَديدةِ الإحْساسِ بزوايا الزَّمَنِ ومَراياه.ُ
عُنوانُ الدَّيوانِ الجَديدِ لِشاعرِنا هُوَ: " حَجَرَ أحْمَدَ" .وهو عَتَبَة ٌ نستطيعُ منها الدخول إلى نصوصِ الشاعر، ونُدرِكُ خبايا عالَمِهِ الشعْريِّ، يتألف العنوانُ من اسمينِ أوَّلُهما الحَجَرُ الذي له دلالةٌ رمزيةٌ حاضرةٌ بشكلٍ حميميٍّ في المشهَدِ الفلسطينيِّ المُعاصَر يرتبطُ بِالتشبُّثِ بالأرض ِ والهِيامِ بها والتضْحيةِ في سَبيلٍها، والاسمُ الثاني أحمدُ، وهو اسْمُ شاعرِنا ، فلذلك يشي العنوانُ بأننا سنقفُ ،ونحنُ نَتصفَّحُ الديوانَ، وجْهاً لوجْهٍ أمام شاعرٍ اتَّخَذَ الحرْفَ معْبداً يُرتّلُ فيهِ ترانيمَ العشقِ لوطنِهِ ويعلن فيهِ وفاءَه لهذا البلدِ الجريحِ وصُمودَهُ على تُرابِ أرضهِ رغماً عنِ الليلِ الطويلِ والآفاق المظلمةِ.
يقول شاعرُنا في إحْدى قصائدِ الديوان الجديد مُعرّفاً عن نفسهِ:
أنا غُصْنُ ريحٍ
رماهُ نباتُ الأعالي
إذا صارَ للماءِ عاشَ تَجَذَّرْ
وإلا تَمَشّى
مَعَ النَّهْرِ
حيثُ تَروحُ الحياةُ
وحيثُ يصيرُ الوجودُ
حياةً ومعْنىً
بهذه الرومانسيَّةِ المُتَعانقةِ معَ الطبيعَةِ وكائِناتِها المُتوَحّدةِ فيها يَنْظُرُ الشاعرُ إلى الوُجود والحياةِ، وهنا نَلْمِسُ قَلَقَ الشاعِرِ طافِحاً على سَطْحِ الكلماتِ، ولكنهُ مُتشبِّعٌ بِفَلسَفةٍ واعيةٍ بمنطِقِ الأشياءِ، وواقعيّةٍ تُؤمنُ بالإرادةِ والقُدْرةِ على التغْييرِ، وأن الإنسانَ يملكُ مفتاحَ البقاءِ والتجذُّر، إذا توفّرَ على شَجاعةَ الصُّمودِ في وجْهِ الظواهرِ الطبيعيةّ. ولا معنىً لهذا الوٌجودِ بدونِ الإيمان بالذاتِ المتحرّكةِ الوثّابةِ المُُفْعمَةِ بالعُنْفُوانِ . بمِثلِ هذه الرمْزيةِ يَنقُلُ الشاعِرُ رُؤيَتهَُ إلى القارئ، ويتألقُ فنّياً وجمالِياً بهذه اللغةِ الشعْريةِ المُوحيَةِ، وهذه الموسيقى المُتقارِبيَّةِ الصافية.
وللشاعر قصائد عموديةٌ غايةٌ في الفَصاحةِ والمتانةِ والسبْكِ القَويِّ، تُؤكدُ أنهُ متمكنٌ من أدواتِه العروضيةِ والبلاغية، فضلاً عن روحهِ الوَطَنِيَّة العالية، واستحضارهِ تاريخَهُ العريقَ بحماسةٍ وشكيمةٍ وافتخارٍ ، فمِمّا تقرأُ له في قصيدةِ:"إلى أهْلِنا في العراقيب" وهم مُواطنونَ عرَبٌ تعرَّضتْ بيوتهم للهدمِ مِنْ قِبَلِ الجرّافات الإسرائيليةِ :
أُهدي إليكم رجالَ العزّ والطيبِ***يا صَفوَةَ القومِ يا أهلَ العراقيبِ
قولي شهادَةَ فـــخرٍ للّذينَ بَنَوْا*** لِلمـــــجدِ بيتًا بأسفارِ اليعاريبِ
الرَّمْلُ يَشـــهدُ للتّاريخِ مَبـــعثَهُ***عِظامُ أســـــلافِنا رَمْلُ الكثاثيبِ
إن مثْلَ هذهِ الوطنيةِ الفلسطينيَّةِ العاليةِ تُفسّرُ عنوانَ الديوان لشاعرِنا تفسيراً إضافياً، فالشعرُ مُعادِلٌ للحَجَر يستعملهُ الشاعرُ كأداةِ للمقاومةِ والتمسّكِ بجُذورِ أرضهِ وتُرابِها، وهذه رسالته، يُوصلُها بأمانةٍ إلى الجمهور.
وشاعرنا فوزي أبو بكر متشبث كل التشبث بهويته العربية الإسلامية ، لا يتقوقع في محيطه ، ولا يحصر كل همومه على التغني بوطنه والتصريح بمعاناة أهله ، لأنه يرى وطنه شاسعا كبيرا : إنه الوطن العربي الكبير الذي كانت خيوله وصلتْ يوما إلى سور الصين العظيم ، فلا يفتأ يتحدث عن المجد العربي الذي يستلهمه لبناء الحاضر وإعادة الروح والكبرياء إلى هذه الربوع التي عانت كثيرا لهجمات الجحافل والأفكار المعادية . فمن قصيدة له يخاطب فيها نسرا مفردا جناحيه في السماء هو رمز للمجد العربي التليد داعيا إياه إلى التحليق في فضاءات الحلم العربي شرقا وغربا حين كان سلطان العرب شمسا ساطعة في القدس والشام والهند والصين :
سافِر مع الحلمِ في شرقٍ وفي غربِ ..... لترى خطاهم تخيط الدّربَ بالدّربِ
وافرش جناحيك من قدسٍ إلى شامٍ......ومن قرطاجَ إلى إشبيليةِ العرَبِ
واثمل بريح التّوابلِ في دربِ الحريرِ إذا....ما طالت الهند عبنُ البعدِ والقربِ
واكتُب على سورها الصّين قد مرّت جحافلنا....وشدَّنا الماضي من غابرِ الحِقَبِ
ويدخل في إطار نزعته القومية ووعيه بمحيطه العربي وقضاياه ما كتبه عن مصر في أزمته السياسية الأخيرة ، حيث سجل تضامنه المطلق مع أصوات أحرارها الذين احتشدوا في جموع غفيرة لرفض الظلم وإسماع العالم صوت العزة والكرامة كوسيلة لنيل الحقوق ومحاربة الطغيان :
انزَع بقلبي وارمِهِ في النّارِ لا ساحَ إلّا ساحَةَ الثّوّارِ
إنّي برابعةِ العَدِيَّةِ تحتذي شوكًا ورأسًا تَوّجوا بجمارِ
ثُمَّ استفاقوا كي يرَوْها فوقَهُم عَلَت الجموعِ لواحدٍ قَهّارِ
أقْسَمتُ بالرّب الذي خَلَقَ الإباءَ بوحشَةِ الصحراءِ للصُباّرِ
يا مِصرُ يا أمَّ العروبةِ والدّنا أنَّ الفلاحَ وديعَةُ الأحرارِ
ومن تجليات اندماجه التام مع محيطه العربي الإسلامي كثرة استحضاره للموروث الديني في قصائده ، وهذا راجع لكثرة قراءاته وتنوعها ، التي تتوزع بين قراءات للقرآن والشعر القديم ، مما أنتج لديه حاسّةً معرفية تستطيع استحضار محطات من تاريخه وتراثه يستهدي بها في حاضره ويتمثّلها تمثلا شعريا يُسقطُ عليه همومه وأحلامه وانتظاراته .نجد هذا مثلا في قصيدة لها يستوحي فيها بعض ما ورد في قصة يوسف عليه السلام من أحداث . يقول شاعرنا فوزي أبو أبكر في إحدى قصائده الرؤويّة :
لا وقتَ عندي للطَّوافِ
على بحيراتِ العَطَش
سأعودُ للبئرِ القديمَةِ والقريبةِ
علّني أجِدُ الصّبيَّ
مُعَلّقًا في الجُبِّ
أرى زُليْخَةَ في تَمامِ جمالِها المِصْرِيِّ
أَذوقُ خبزَ مُؤابَ في إيابي للمَنامِ
فالرُّؤيا قصيرَة
لا يقتصر شاعرنا على الفصيح بل نجد له شعرا شعبيا باللغة المحكية وقد عمد إلى ذلك ليصل شعره إلى الجميع ويكون مستساغا لكل الأذواق وما ذلك إلا لتعلقه بتربته الفلسطينية وأصالة فكره وحبه لأرضه واعتزازه بلهجته وموروثه الشعبي . نختم هذه الشهادة بواحدة من قصائده الشعبية ذات الإيقاع الموسيقي الشجي والمعاني البسيطة التي تنطق بلسان الفقراء والمكافحين والعشاق :
اسمِك براعم
رسمِك زهر
بس اللي يقهرني قهِر
إنّك بعِد كل هالعُمُر
طلعتِ تشِذِب
يا شو بسيط وشو فقير اطلِعِت انا
وحلمي سحابِه الرّيح مزّعها
تشتَّتت
طِلع الهوى هوا
وطلعِت أنا مش أنا
وطلعتِ إنتِ هلوسِه
وشي عين صابتني
والعطسِه عا خُشمِ اللّي رقاني
تعرقَلَت بلحيتُه
طِلعَت تشذِب
إيمان مصاروة \\ شاعرة وباحثة إعلامية
القدس