تنوعت الموضوعات الشعريّة التي طرحتها قصيدة الرثاء عند الشاعرة الفلسطينية إيمان مصاروة، إذ عكست حالة تشكّل وجداني، ومواكبة لقضايا قوميّة واجتماعيّة، أغنت شعرها بمضامين فكريّة خصبة.
وهذا يقود الباحث إلى محاولة إيجاد آليّة لاستنطاق الخطاب الشعري عند الشاعرة، وصياغة تشكّل جديد لحوار محتمل مع نصوص إبداعيّة متجددة الأفكار.
تنطلق قصائد الشاعرة الرثائيّة من فلسفة فكريّة عميقة، تحمل في جوهرها خطاباً جامحاً، يستند إلى فتات الحاضر وركام الماضي، وذلك بتوظيفها مخزوناً وجدانياً خصباً، جاء نتيجة معاناة حياتيّة، وانكسارات نفسيّة متتاليّة، إذ تؤسس الشاعرة في خطابها النصي إلى «روحانية الخطاب» التي تجعله غائباً عن أرض الواقع، حاضراً في الذاكرة والوجدان، يحاول الخروج من بوتقته، لينبعث برؤى فكريّة خصبة، تعوّض حالة الهزيمة القائمة، وتجعل فعل الفقد مبعث سمو وحياة جديدة، ذات أبعاد فكريّة قادرة على مخاطبة وجدان المتلقي، وحثِّه على البحث عن منطلقات الخطاب الفكريّة، وأهدافه التواصليّة، وكيفيّة صياغته الفنيّة.
نقرأ في قصيدة الرثاء العربية رثاءً للأقارب، وللوطن، وللأمة، وللشهداء، لكن أن ترثي شاعرة زوجها فهذا ما لم نعهده بشكل واضح في الشعر العربي الحديث؛ لخصوصية التجربة الوجدانية، وسكونية الحزن الذي تحتفظ به الزوجة بعد رحيل زوجها.
إنّ ما جسّدته إيمان مصاروة في مجموعتها «بكائيات الوداع الأخير» (دار الجندي، القدس، 2013) يعمّق حالة عشق خاص، ونبض صادق، ووطن عاش في قلب الشاعرة بكلّ قداسة وسموّ، فأيّ حزن شفيف هذا الذي يعتري وجدان المتلقي وهو يقرأ حرفاً بحرف ما خطّه قلب شاعرة مفجوع بحالة الفقد، وجسدٌ ما يزال يبحث عن روحه؟
إيمان مصاروة ذاتٌ أنثوية مرئية في عالم الكلمات، ترتدي وجداً ثائراً وحبّاً جامحاً لسنين قضتها مع زوج وفيّ، أشعل غيابه الاستعارة في كلماتها، والحزن في قلبها، حيث تقول:
«على العَتباتِ باكيةٌ جراحُ الفَقْدِ والذَّكرى
تُردِّدُ في عَباءةِ ليلِها وجَعاً
ترى في الفجرِ أُحجية
تقُضُّ الحزنَ تَعصِرُ
فتدمَعُ في لهيبِ الشَّوقِ أنَّاتي
أُسافرُ في فضاءِ الله أَعبُرُ وَحْيَ قصَّتِنا
أُرتِّلُ ما تبادلنا مِنْ النجَّوى
على شُبَّاكنا الباكي
وأَقطِفُ سوسنَ الآمالِ» (ص7).
يجسّد الخطاب الشعريّ في هذا النوع من الرثاء فاجعة فعل الفقد، ويستدعي ذكريات الماضي بصورة حزينة، تفيض ألماً، وتسير بالذات إلى مواجهة مصيرها المحتوم.
ورثاء الزوج لصيق بالنفس الإنسانيّة، يعانق فعل الموت المفاجئ، ويجسّد شعراً حزيناً، يخفف عن الروح معاناتها، ويقدّم الموت وفق رؤيّة أكثر عمقاً، وشموليّة للحياة:
«يا غربةَ الأيَّامِ أَسقتْني رَدايَ
على شِفاهِ الحُبِّ ضاقَ
اللّيلُ
يَسكنُ صرختي
فإلى متى
يبكي الرَّحيلُ على رفاتِكَ؟» (ص37).
وتمدّ الطبيعة الشاعرة بأفكار جديدة، قادرة على حمل معاني الفقد، والانطلاق بزمن جديد، يعاند نزف الزمن الماضي، ويستند إلى تجربة معاصرة ذات أبعاد وجدانيّة واضحة، فضلاً عن أن الطبيعة تمدّ الشاعرة بالرؤى الفكريّة القادرة على السمو بروحانيّة المرثي، وجعل فقدانه أكثر تأثيراً في وجدان المتلقي، بالإضافة إلى أن توظيف مفردات الطبيعة في العمل الشعري يُحدث توازناً بين واقع حزين، وماضٍ خصب بلقاء المحبوب:
«مَطَرٌ يَعُمُّ مساءَنا والليلُ يَزأَرُ
لا مُجيرَ مِن الدُّموعِ
على خُدودِ الزَّهرِ مِن أَحدٍ سِواك
وقَعَ الغيابُ على الجبينِ
وما وَقَعْتَ وذا دمي
يَجترُّ صوتَ الحزنِ
يَكتبُ في الدُّجى رؤياك
عَتَّقتُ في سَعفِ النَّوى ما قاله
قلبُ المَغيبِ
على الشَّفاهِ فـأمطرَ
الوجعُ المقيمُ رِثاك» (ص40-41).
ترسّخ إيمان مصاروة في مجموعتها «بكائيات الوداع الأخير» ما يسمى «رثاء الحبّ»، وهو رثاء عميم الحزن بالغ التأثير، ذلك أنّه يصدر عن معاناة حقيقية، ووجدٍ لم يهدأ بعدُ، إذ لم تفلح الكلمات في إطفاء ناره أو التخفيف من معاناته»
«أرى وحدي أَفيضُ فأختفي أَلماً
بلا قمرٍ يُوسِّدُ صرختي في الصدرِ
يحضُنُها بِدفءِ الحبِّ والمأوى
عليٌّ أَيْنكَ الآنا
عليٌّ أَيْنني الآنا
على أطلالِ قِصّتِنا
قَضَيتَ العمرَ ظمآنا
ولم أَعهدْكَ مُرتحِلاً
يَرى في البعدِ نِسيانا» (ص
.
إذ يعدّ الحبّ عاطفة إنسانية خالدة، ومؤثرة في الإبداع الفني، بل هي من أكثر العواطف شيوعاً في الشعر، ويرى الشاعر في الحب «وجهاً من وجوه الطبيعة الخالدة والمتجددة على مرّ الفصول»، بحسب تعبير «إليزابت درو».
ولمّا كانت تجربة الفقد في جوهرها واحدة، فإن ما يصيب المحبين من جفوة أليمة، وفراق قسري، يشكّل حالة فقد خاصة، تنبض بالهجر، وتشع برغبة جامحة في الموت، والاتحاد بالطبيعة، حيث الخلود والخلاص الدائم.
لذلك يشترك الرثاء مع شعر الغزل في التعبير عن معنى الألم والأسى، وقد لاحظ د.طلعت أبو العزم أن معظم قصائد الحب لدى شعراء الموت تشي بفقدان العمر، وانقضاء الشباب، إذ «يعاني الشاعر من فراغ نفسي، وخواء عاطفي، وظمأ وجداني، وحينئذ يفكر في الموت وينشده، ويراه مخلصاً ومنقذاً له». وهذا جعل الرثاء يتولّد في حالة فقدان العلاقة العاطفية بين المحبين، أو حينما يفقد أحدهما الآخر بالموت، مما يشكل خواءً عاطفياً، وخيبة أمل شديدة.
وقد تركت تجربة الحبّ في الشعر العربي أثراً واضحاً في تشكيل الرؤية الشعريّة، إذ تدعو إلى التأمل والإعجاب معاً، وتجعل الرثاء في غيابها أمرّاً ملحاً. ولعلّ أهم ما ينماز به هذا النوع من الرثاء هو شيوع معاني الأسى واللوعة، وانسلاخ الذات عن الآخر بشكل يعكس مأساوية التجربة، وسيطرة حالة الضياع، وانعدام الحياة، كما في قول الشاعرة في رثاء زوجها عليّ:
«أمّا عاهدْتني يوماً
أيا قلبي إذا ما الموتُ أعيانا
معاً في لحدِنا حبّاً نُسجَّى
والهوى يبقى لنا في اللَّحدِ عنوانا
أَترحلُ تارِكاً وجعي
على أطرافِ عِلَّتِه تعالى الفجرُ نشوانا
أَخنْتَ العهدَ أم خانتْكَ أمنيتي؟» (ص9).
لجأت الشاعرة إلى أسلوب التساؤل الذي يبرز حجم الفراغ الذي تركه المرثي، إذ تكثر التساؤلات في زمن الفقد؛ للبحث عن الذات، ومحاولة تلقي صدمة الموت، حيث نجدها تطرح أسئلته التي يفسح من خلالها عن فضاء الفقيد، وما شهدته حياتهما من حبّ ووجد صادق، وهو تساؤل المدرك للحقيقة، والساعي لبعثها في فضاء العاشقين.
وبين طرفَي الثنائية المتمثلة في الموت والحياة، تتمفصل العلاقات المضمونية في الحقول الدلالية لقصيدة الرثاء؛ لتنبعث رؤيا الشاعرة بوعد اللقاء بالمرثي، إذ تبلغ العلاقة بينهما حالة من الخلود الأبدي، تتعمّق من خلالها الجراح، وتتعاظم الأحزان:
«عَدوتُ أُلاحقُ ظِلَّّّّّّّّّّّ الكتابةِ
أَرسمُ في الظِّلِ وَحَيَ الكَلامِ
فأَرَّقَني ما تناسلَ فِكراً وسالَ المدادُ
وفاضتْ معَ الرُّوحِ
نجوى الرحيلِ
كمَن سارَ في رملِ تلك الصحارى
لينهلَ مِن حَرِّ روحي سلاماً
تَضمَّخَ جرحاً رَواهُ القلق» (ص11).
ونجحت الشاعرة في نقل انفعالاتها ورغباتها إلى المتلقي، وذلك بجعل المفردة الشعريّة تتخذ طابع الحركة السريعة، التي تمنحه إنتاجية عالية للمعنى، وتصعيداً واضحاً لنبرة الخطاب الشعري، الذي تبلغ فيه الأنا درجة عالية من المعاناة، تتشح بمعاني الخوف والضياع.
ونلمس في شعر إيمان مصاروة الرثائي ما يشبه ظاهرة الأطلال المعروفة في الشعر العربي القديم بين العصرين الجاهلي والعباسي، حيث يتكشّف فعل الفقد تدريجياً، فبعد أن يرحل المحبوب من مكانه الأليف، لا يبقى إلا حديث الذكريات، ولوعة الفراق، مما يعكس روحاً شعرية مكلومة بفعل الفقد، كما في قولها مظهرة وجداً واضحاً، ومنتجة حزناً مستمراًً:
«هي الأَطلالُ
يا ويحي تصوغُ الحزنَ أَكفانا
فلا موتٌ يبادرُني
ولا عُمري به كانا
أشِيخُ بِدمعتي شغَفاً
وأصبُو في حكايانا
أَعِدْ للقلبِ بسمتَه
وهَيِّئْ مهدَكَ الورديَّ في الصحراء أغصانا» (ص9).
وهذا يعني أن بناء القصيدة الشعريّة في المجموعة جاء بناءً متلاحمَ الأجزاء، يقوم على عناصر فنية متنوعة أبرزها الصورة، والذاكرة المشتعلة، زالموسيقا الشعريّة ذات الإيقاع الحزين، بالإضافة إلى الجانب المعنوي المنفتح على الأبعاد المشهديّة للصور المحسوسة.
وفي رثاء الزوج على وجه الخصوص تكون المعاناة أكثر وضوحاً والتجربة الشعريّة أشد قسوة من غيرها، ذلك أن الأنوثة المبدعة تتحرك في قلاع زمنية شعرية أنتجتها تجربة الحبّ المقدسة، والحياة الزوجية التي لا يعلوها حياة، ولا يدانيها عشق بشري، ممّا جعل الشاعرة تفيض مشاعرها بعدما أصابتها شظايا الفراق في أعماقها:
«منْ بَعدِ بُعدِكَ أَقفرت آمالي
وهوتْ عليَّ عظائمُ الأهوالِ
باتتْ تكلمني المنايا خلسةً
وتبيتُ ترقبُ عَبرتي ومآلي
لو أَنَّ لي بجوارِ لحدكَ مرقداً
يُقصِي سهامَ البُعدِ والتِّرحالِ» (ص25).
ولعلّ سمة التكثيف الشعوري سمة فنية مهمة في شعر إيمان مصاروة الرثائي، إذ استطاعت من خلالها تفعيل الطاقات الشعوريّة للمتلقي وإكسابه جانباً مهماً من التجربة الحزينة للشاعرة، فلحظةُ التكثيف الشعوري تستمد مقوماتها من العلاقة القوية التي تربط الشاعرة بالمرثي، وقد تبدّت منذ القصيدة الأولى في المجموعة، فهي لحظة غير متشظية، بل متتابعة متماسكة من خلال تتابع الصور الدالة على حادثة الفقد، وبيان أثرها العميق في نفس الشاعرة.
إيمان مصاروة شاعرة ذات تجربة وجدانية خصبة أغنتها حالة الفقد بمضامين خاصة جعلت منها خنساء هذا العصر، إذ تبوح كلمات قصائدها بعشق مكلوم وحزن دفين لفراق زوجها (عليّ) الذي مات، وتركها وحيدة مع آلامها.
لكن هذه الوحدة والمعاناة أنتجت في النهاية شعراً بحجم الحبّ الساكن في داخلها، تتأسس مفرداته وفق نسق حزين سمح بإنتاجية عالية للصورة، واشتعال للغة الاستعارة المحمّلة بوجد جميل يعكس كينونة الشاعرة الأنثوية وفعلها الإبداعي، ممّا جعل «بكائيات الوداع الأخير» تكتسب فعل الفرادة؛ لأنها المجموعة الوحيدة –على الأرجح- المختصة برثاء الزوج، والتي تعكس قصائدها كتابة للزوج، وليست عنه كما هو معهود في قصائد الرثاء.